انت هنا : الرئيسية » ثقافة ومجتمع » الخليج احتضنني… والإيرانيون أحصوا أنفاسي… والأحوازيون عرب حتى النخاع

الخليج احتضنني… والإيرانيون أحصوا أنفاسي… والأحوازيون عرب حتى النخاع

«عاشق البادية الإنكليزي… المستشرق البروفيسور بروس إنغام» تعرف على «العربية» مصادفة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لم تكن من بين اهتماماته الأولى، لم يعرها اهتماماً في بادئ الأمر، كان تركيزه منصباً على ما ورثه من والديه المغرمين بسحر الشرق وفنونه وثقافاته، فقد كان والده ممثلا انكليزيا يعشق القراءة والمطالعة والسفر إلى الهند، لذا هام عشقا في ثقافات الشرق القادمة من الهند والصين وبلاد فارس وباكستان.

 وكانت أمه مهتمة بالتعرف على حضارات الشرق… لذا ورث الفتى بروس حب الشرق ولغاته وأساطيره. غير أنه فجأة، وبينما كانت تحيط به الكثير من الثقافات المبهرة الثرية في الصين والهند وبلاد فارس، وبينما هو يعيش في «قلب» الحضارة حيث الطبيعة السخية الخضراء في أحضان مدينة لندن وريفها الذي يغلفه الغمام ليل نهار، أطل ببصره على تلك الحروف القادمة من صحراء العرب القاحلة التي شكلت بالنسبة اليه كلمات غريبة لمحها في دفاتر بعض زملائه من الإيرانيين والباكستانيين، تلك الحروف التي كانت تبدو في عينيه كما لو كانت طلاسم رسمتها أيد ساحرة بارعة في فنون السحر، لكنها لفتت انتباهه، فأحب أن يتعلمها وغامر بأن يتعرف على مصدرها ومخارجها وأصولها، وكانت البداية! لم يكن البروفيسور الإنكليزي بروس إنغام، يدري أن مغامرته الأولى شاباً ستحوله أسيراً، بل بمعنى أدق، هائماً يعيش حالة من الانغماس الكامل في عشق بادية وصحراء ولغة عربية وتفاصيل حياة لم يكن يتوقع يوما من الأيام أن الأقدار ستقوده إلى هذا المصير… ومازال البروفيسور إنغام، أو حسين الظفيري- كما يحب أن يكنى- يبحث ويتدبر من أجل فك طلاسم سر هذا العشق الذي سيطر على كيانه. اللغة العربية أغنى اللغات السامية جميعاً وأكثرها استخداماً ويتحدث بها أكثر من 420 مليون نسمة.

على غرار ما قام به البروفيسور بروس إنغام عاشق البادية والصحراء خبير دراسة أنثروبولوجيا القبائل واللغات واللهجات في منطقة الجزيرة العربية، من جمع وتسجيل تراث القبائل في الجزيرة العربية، قمت بجمع وتسجيل حوارات متعددة أجريتها معه في أزمنة مختلفة امتدت على مدى أكثر من 16 عاماً (1994- 2010) وأمكنة مختلفة في (لندن والرياض وبريدة والكويت) حول: اللغات بشكل عام واللغة العربية ولهجاتها في الجزيرة العربية بشكل خاص، والاستشراق والمستشرقين، والبدو والموروث الشعبي لقبائل الجزيرة العربية، والشعر النبطي، وقبائل الهنود الحمر ولغاتها، ومسائل أخرى، وكانت هذه حصيلة تلك الحوارات:


فنون الشرق
• هل لك أن تحدثنا عن جوانب من حياتك: عن طفولتك؟ عن تنشئتك الاجتماعية؟  – ولدت في لندن في 9 ديسمبر عام 1942 في أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنني لا أتذكر أي شيء عن الحرب؛ لأنني كنت صغيراً لا أعي ما يدور حولي، أنا من عائلة مثقفة من الطبقة الوسطى، والدي من شمال إنكلترا، ووالدتي من لندن. نشأت وترعرعت في لندن وعشت أحلى أيام طفولتي وشبابي. كان والدي ممثلا مسرحياً وكان قارئاً نهماً واسع الاطلاع على ثقافات وتقاليد شعوب الشرق الأوسط المختلفة، وكان له اهتمامات بشؤونها السياسية، فشجعني على دراسة اللغات وساعدني مادياً.

 أما والدتي فتستهويها الفنون الشرقية، ويبدو أنها تأثرت بجدها الذي كان مهتماً بالشرق، إذ كان كثير السفر إلى الهند، ومن هنا فالوالدان كان لهما الدور الكبير في تكويني الفكري، وأثرا في شخصيتي منذ الطفولة، ونميّا لديّ حب القراءة وتعلم اللغات. درست في مدارس القسم الداخلي في الريف اللندني، ومن خلال المدرسة الداخلية تعلمت الاعتماد على النفس؛ حيث يدرس الطالب في المدرسة وينام فيها، ولا يرى والديه إلا في عطلة نهاية الأسبوع، وفي هذه المدرسة اختلطت مع أطفال غير إنكليز فتعرفت على ثقافتهم، كان زملائي من تايلند والصين وباكستان وإيران، ولم يكن في المدرسة طلاب عرب آنذاك- أي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.


الخط العربي
• كيف جذبتك اللغة العربية إلى هذا الحد؟
– انجذابي إلى اللغة العربية وتخصصي لاحقاً بها له حكاية طريفة تعود إلى سنوات دراستي في المدارس الداخلية في لندن، فكما أسلفت كان لي زملاء في المدرسة من إيران وباكستان، وكان الطلبة الإيرانيون والباكستانيون يرسلون رسائل إلى أهلهم بلغاتهم، وشد انتباهي الخط العربي، لأن اللغة الفارسية والأوردية تكتب بحروف عربية، وكان هناك طالب باكستاني يكتب الخط العربي بطريقة جميلة جذابة، فتولدت لدي الرغبة في تعلم اللغة العربية، ومن محاسن المصادفات أن أحد المعلمين في مدرستي كان قد خدم في الجيش البريطاني في العراق أثناء الحرب العالمية الثانية، وهذا المعلم يجيد اللغة العربية، فأعطاني بعض كتب اللغة العربية، فتعلمتها بجهود ذاتية وكان عمري 16 سنة. وفي الواقع كنت قد تخصصت في اللغتين الفرنسية واللاتينية في المدرسة، ولكن تعلمي اللغة العربية كان خارج إطار المدرسة كهواية، ولقيت تشجيعاً من المدرسين لتنمية هوايتي ومؤازرتي وكذلك لاقيت نفس التشجيع من والديّ. وبعد أن أنهيت الثانوية التحقت بجامعة لندن في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية، وتخصصت في دراسة اللغة العربية كتخصص رئيسي، واللغة الفارسية كتخصص مساند. وفي الجامعة كان المنهج يتضمن- إضافة إلى دراسة اللغة العربية- دراسة الأدب العربي والتاريخ العربي، والحضارة العربية الإسلامية، وتخرجت عام 1961. وبعدها تقدمت إلى نفس الجامعة التي تخرجت فيها؛ لأعمل بوظيفة باحث دراسات عليا في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية، وحصلت على الدكتوراه عام 1974.


اضمحلال اللغات
• يواجه من يتعلم اللغة العربية من غير أبنائها الكثير من الصعاب وذلك لاختلاف الأصوات والحروف وطريقة الكتابة، لماذا اخترت اللغة العربية؟
– يجب الإشارة إلى أن اللغة العربية تعد أغنى اللغات السامية جميعاً، وأكثرها متحدثينَ (يتحدث بها أكثر من 420 مليون نسمة) فهي تنتشر- بالإضافة إلى الوطن العربي- في: تشاد ومالي والسنغال واريتريا وتركيا وإيران وأفغانستان، ولها مكانة مهمة لدى المسلمين لأنها لغة القرآن الكريم، وكذلك هي لغة الشعائر الدينية الرئيسة لدى الكثير من الكنائس المسيحية العربية، وأثرت العربية على كثير من اللغات الأخرى كالتركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية، وبعض اللغات الإفريقية الأخرى مثل: الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية والألبانية. ومن هنا فهي لغة الحضارة والثقافة الضاربة في التاريخ.


سحر اللغات وهوايتها
• من الواضح أن تعلمك للغة العربية كان في بدايته كهواية؟ كيف تحولت هذه الهواية إلى تخصص أو وظيفة ؟ وكيف حظيت بالاهتمام؟ – دون شك كانت بداية تعلمي للغة العربية كأي هواية يمارسها الشخص مثل الرياضة أو الرسم أو الموسيقى، وكما ذكرت آنفا فقد تعلمت اللغة الفرنسية واللاتينية في المدرسة، وتعلّم هاتين اللغتين حفزاني لتعلم لغة أخرى، ونتيجة لاختلاطي بزملائي الطلبة من الدول الأخرى حيث كنت استمع إليهم وهم يتحدثون بلغة مختلفة تحمست لتعلم لغاتهم. فكنت أرغب بتعلم السواحيلي، والفارسي، والعربي. كانت فعلا هواية في بدايات تعلمي اللغات. ولم أكن أنا الوحيد الذي استهوتني تلك الهواية بل كان كثير من الطلبة الزملاء الآخرين انجذبوا إلى تعلم اللغات. أذكر أحد زملائي في الصف بدأ بتعلم اللغة الصينية ولكنه لم يستمر بتعلمها بل توقف عند معلوماته في المرحلة الثانوية. يتأسس عادة الاهتمام بالتخصص الأكاديمي على هواية في البداية، ومن ثم قد يلعب عامل الحظ أحيانا دوره. فقد يتحمس المرء لشيء معين، ويجد فيه مجالا للوظيفة المرموقة، أو البحث الرصين، ويصبح جزءاً من حياته يلازمه إلى الأبد. هناك أفراد باحثون متخصصون معروفون وليس لهم وظيفة أكاديمية، أذكر أن لغوياً مشهوراً، لم يكن أكاديمياً بل وكيل شركة تأمين إلا أنه متبحر في إحدى اللغات، تعرّف على لغوي مشهور وأسس الاثنان نظرية في اللغة. وهناك شخص في وزارة الخارجية البريطانية تخصص في تاريخ اللغات التركية- كاهتمام شخصي- وقام بتأليف كتاب عن اللغة يعد مرجعاً مهماً جداً للباحثين الأكاديميين.


المستعمرات البريطانية
• تخرجت في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية- جامعة لندن، ومن ثم قمت بالتدريس بنفس المعهد، حدثنا عنه: متى أنشئ؟ وما التخصصات الأكاديمية التي تدرّس فيه؟ – أنشئ معهد الدراسات الشرقية سنة 1916 بموجب مرسوم ملكي بريطاني، وتم الافتتاح الرسمي تحت رعاية الملك جورج الخامس سنة 1917. وأضيفت إليه الدراسات الإفريقية سنة 1938؛ فأصبح “معهد الدراسات الشرقية والإفريقية” ويختصر بـ “
SOAS” أي School of Oriental and African Studies، وكان الهدف من إنشائه تدريب وتعليم الموظفين وضباط الجيش والمسؤولين البريطانيين بالأمور المتعلقة بالشؤون الآسيوية والإفريقية، فكان يتم تدريبهم فيه لتعلم اللغات الشرقية والإفريقية لأداء المهام الخارجية بحكم وجود مستعمرات الإمبراطورية البريطانية في إفريقيا وآسيا. وأصبح المعهد منذ الستينيات من القرن الماضي من أعرق معاهد الدراسات الاختصاصية في شؤون الشرق الأدنى والأوسط والأقصى وإفريقيا، وتحول إلى كلية أكاديمية بحتة للدراسات العليا تابعة لجامعة لندن، وأصبح يُدرّس فيه العلوم الاجتماعية، وعلوم اللغة، وعلم الإنسان، والاقتصاد، والعلوم السياسية، والقانون وتحتل الكلية (أو المعهد) المركز السادس على مستوى الجامعات البريطانية حسب آخر تصنيف أكاديمي.


المحمرة والإيرانيون
• حصلت على شهادة الدكتوراه عام 1974 من جامعة لندن، ما موضوع رسالة الدكتوراه؟ وما المنهج العلمي الذي سلكته؟ وما الصعوبات التي واجهتك أثناء عملية البحث؟ – نصحني وقام بتشجيعي أستاذي الراحل البروفيسور الكبير جونستون -وهو بالمناسبة متخصص في لهجات الخليج العربي (لهجات بدو شرق الجزيرة العربية)، ومتخصص أيضا في اللغات الحميرية- أن أقوم  بدراسة لهجة عرب إقليم الأحواز، لسبب إجادتي اللغتين العربية والفارسية، واللتين ستكونان من العوامل المساعدة في بحثي. ذهبت عام 1969 إلى الأحواز أو المحمّرة والتي يطلق عليها الإيرانيون مسمى “خوزستان”، وكانت في تلك الفترة تعصف بها كثير من المشكلات والخلافات وبشكل خاص حول شط العرب.

وكنت لم أسمع عنها آنذاك وأنا في لندن، إذ كانت تنشب مناوشات حول منطقة شط العرب بين العراق وإيران أيام الشاه، فكان مجيئي إليها في ظروف سياسية غير مواتية. كان رجال الأمن الإيرانيون يراقبونني ويحصون أنفاسي، إلا أن حماسي للبحث العلمي لم تثنه هذه العقبات، فتعرفت على شيوخ قبائل الأحواز هناك، وأوضحت لهم أن هدف دراستي هو التعرف على لهجتهم. وبالمناسبة فهم عرب ثقافة وتاريخاً وعادات، وكان لقبائلهم دور كبير في أواخر القرن التاسع عشر، مثل قبيلة بني كعب، وكان لشيخ المحمّرة “الشيخ خزعل بن جابر المرداو الكعبي” من فخذ المحيسن دور كبير في تاريخ المنطقة.

وعندما شعرت الحكومة الإيرانية بالشعور القومي العربي لدى الأحوازيين، وتمسكهم بالتراث العربي- خاصة اللغة- اتجهت إلى تدريسهم إجباريا اللغة الفارسية في المدارس، في الوقت نفسه حرمت السكان من وسائل الاعلام الناطقة بالعربية؛ إذ لا توجد إذاعة باللغة العربية خاصة بهم، كما لا توجد جرائد أو مجلات عربية، وحينذاك كان جيل الشباب يتكلم الفارسية والعربية، أما كبار السن فلا يعرفون اللغة الفارسية، ويحتفظون باللغة العربية، ولهجتهم لهجة جنوب العراق. فأمضيت ستة أشهر في منطقة الأحواز أو المحمّرة، بعدها ذهبت إلى جنوب العراق لتكملة البحث لتشابه اللهجة هناك. وعلمت أن نهج التمييز القومي المؤسف ضد الأحوازيين قد استمر في ظل الجمهورية الإسلامية الحالية.


حديث القرى
• ذهبت إلى أفغانستان لدراسة بعض اللهجات العربية ومن المعروف أن أفغانستان ليست دولة عربية حدثنا عن رحلتك تلك؟ يجب أن تعرف يا صديقي أنني مهتم جداً باللغة العربية ولهجاتها، وكنت أبحث عمّا يتعلق بذلك بدراسة أكاديمية رصينة. وقد نمى إلى علمي أن هناك مجموعات بشرية خارج الوطن العربي تتحدث العربية، فوجدتها فرصة سانحة للبحث العلمي الواقعي لكي يكون لي السبق لبحث جديد، فذهبت سنة 1969 إلى أفغانستان للبحث عن اللهجة العربية المحكية هناك وزرت محافظة بلخ قرب مدينة مزار شريف ووجدت أربع قرى يتحدث أهلها اللغة العربية، وحسب رواياتهم التقليدية أنهم قد قدموا من اليمن في زمن الأمير تيمور لنك. كانت لغتهم عربية إلا أنها قد اندمجت مع اللغات الأخرى المجاورة لدرجة أنك تلاحظ خصائص فارسية وأوزبكية في النحو، واللافت للنظر أن سكان منطقة شمال أفغانستان، ومهما كانت لغتهم يشتركون في كثير من المفردات المتعلقة بالزراعة والرعي. على سبيل المثال كلمة “مال داري” تعني رعي المواشي في كل تلك اللغات وهي مكونة من كلمة “مال” التي تعني في هذا السياق “مواشي” وداري كلمة فارسية تعني ملكية أو حفاظ. مكثت هناك حوالي ثلاثة أسابيع وتحدثت إلى القرويين وسجلت أحاديثهم بآلة التسجيل. وبعد ذلك قمت بتحليل لغتهم ونشرت بحثا أكاديميا بعنوان “لغة حية في عزلة”.

 بقلم: عطية الظفيري

نقلا عن “الجريدة”

كافة حقوق النشر محفوظة لموقع بادماز. ما ينشر في هذا الموقع لايعبر بالضرورة عن موقف التيار الوطني العربي الديمقراطي في الاحواز.

الصعود لأعلى